نحو تاريخ للفكر الإتصالي-أحمد القصوار
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
بيت الحكمة

نحو تاريخ للفكر الإتصالي

  أحمد القصوار    

    صدرت عن دار توبقال للنشر الترجمة العربية لكتاب "الفكر الإتصالي" للباحث الفرنسي بيرنار مييج، أنجزها الباحث و المترجم المغربي أحمد القصوار. و في ما يلي عرض للتعريف بالكتاب و كاتبه أعده المترجم.

 ما زال الوضع الإعتباري للبحث في مجالات الإعلام و الإتصال يعرف نقاشا واسعا حول الإعتراف به كمبحث علمي مستقل له مشروعية الوجود بين التقسيمات الجامعية المرعية. غير أن ذلك لم يمنعه من استعارة نظريات و نماذج و مفاهيم من مباحث علمية مختلفة ، كما أن هناك إجماعا على اعتباره مجالا تتقاطع فيه اهتمامات مختلف  العلوم ؛ ولاسيما العلوم الإنسانية التي تقارب موضوعاته في سياق إشكالياتها الخاصة ومن زاوية نظرها المتخصصة ( علم النفس ، علم الاجتماع ، لسانيات...).
  ومن خلال استقراء بعض الدراسات التي اشتغلت على تقديم مداخل لهذا المجال أو التأريخ له ، يمكن أن نخلص إلى وجود تيارين اثنين:
- الأول ، يعتبر الإتصال مبحثا علميا متداخل التخصصات، حتى و إن كان يندرج ضمن دائرة العلوم الإنسانية و الاجتماعية؛
- و الثاني، يدفع بفكرة استقلالية هذا المجال في إطار ما يسمى بعلوم الإعلام والإتصال ، و يدعو إلى العمل على تشييد الخصوصية الإبستيمولوجية والمفهومية و المنهجية؛ شأنه في ذلك شأن باقي المباحث العلمية الأخرى.
في هذا السياق ، نقترح على القارئ المغربي و العربي عموما هذه الترجمة المتواضعة لكتاب الباحث الفرنسي بيرنار مييج الذي صدر تحت عنوان " الفكر الإتصالي ".
أهمية الكتاب المُترجم
    يعمل مييج أستاذا لعلوم الإتصال وعضوا في مجموعة التكوين والبحث في علوم الإتصال بجامعة ستندال-غرونوبل 3 . كما يتولى مسؤولية شهادتي الميتريز و دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الإعلام والإتصال بنفس الجامعة. وكان قد أسس رفقة إيف دولاهاي سنة 1978 " مجموعة البحث في رهانات الإتصال "، حيث يشغل حاليا منصب مدير النشر للمجلة التي تصدرها المجموعة، وعنوانها "    Les Enjeux de l information et de la communication "  . و يشكل كتاب" الفكر الإتصالي" إضافة نوعية في سلسلة من المؤلفات التي تصدت للتعريف بنظريات الإتصال و مجمل التفكير الفلسفي و/ أو العلمي في الإعلام و الإتصال منذ  بدايته وإلى الآن. وقد صدر في طبعته الأولى سنة 1995 . وما أن إطلعت عليه سنة 2002 حتى انكببت على ترجمته. و بعد الإنتهاء من صيغته الأولى في خريف 2004 ، اكتشفت أن الباحث بصدد إصدار طبعة مزيدة . هكذا ، وبعد التوصل بالنسخة المزيدة الصادرة سنة 2005 ، أضفت الفقرات المزيدة وأعدت النظر في الهوامش و البيبليوغرافيا العامة للكتاب...
   يجمع هذا الكتاب بعض المميزات التي شجعتني على الإهتمام به و ترجمته إلى اللغة العربية، وذلك تعميما للفائدة كي تشمل الباحثين و الأساتذة المدرسين والمهتمين بمجال الإعلام والإتصال و ظواهر وقضايا التواصل الإنساني، وكذا طلبة الجامعات والمعاهد المتخصصة. ويمكن إجمال تلك المميزات في:
1-    تصنيفه الواضح و المنظم و استعراضه الضافي  للتيارات المؤسسة للفكر الاتصالي و لأفكارها الأساسية؛
2-    تتبعه الكرونولوجي لمختلف الأفكار والإشكاليات والقضايا التي اقترحها أو تصدى لمعالجتها الباحثون والمهتمون بمجالي الإعلام والإتصال والتواصل الإنساني. وهذا ما يجعل من الكتاب مختصرا جامعا للأفكار المتعلقة خصوصا بالتواصل الإنساني و بمجالات الإعلام و الإتصال. من ثمة نكون أمام كتاب يتتبع مختلف المساهمات التي أرست صرح الفكر الإتصالي منذ الأربعينيات من  القرن العشرين إلى بداية القرن الواحد و العشرين؛
3-    تقديمه لمقتطفات من النصوص التي ألفها الباحثون و المفكرون الذين تطرق لهم في أقسام و فصول الكتاب. و هذا ما يسمح للقارئ  بالاستئناس بالنصوص الوازنة و الأساسية التي طبعت تاريخ الفكر الإتصالي و ساهمت بشكل كبير في تطويره وإرساء مختلف تياراته ؛
4-    مزاوجته بين استعراض الأفكار والمساهمات المختلفة و توليف الإنتقادات و مظاهر محدودية تلك الأفكار و الإضافات إلى سيرورة الفكر الإتصالي.
    
الفكر الاتصالي : خصائصه و مكوناته
 
         منذ البداية ، يطرح بيرنار مييج سؤال مشروعية البحث التاريخي في الفكر الإتصالي .ف " هل من الضروري - يتساءل الباحث- أن يكتسب حقل علمي معين إعترافا أكاديميا طويل الأمد أو دعما واسعا من طرف الهيأة السياسية- العلمية حتى نبحث في تطوراته و ندقق في تكونه بناءا على أساس متين؟ ". يجيب ضمنيا عن هذا السؤال بالنفي ويعلن تصديه للأهم في رأيه، و هو البحث عن العناصر المكونة للفكر الإتصالي عبر مختلف المراحل التي قطعها.
 ما هي طبيعة هذا الفكر ؟ و ما هي العناصر الكبرى المكونة له؟. لا يتردد الباحث في الكشف عن الإلتباس و الإزدواجية التي تطبع الفكر الإتصالي الذي يجمع بين الإنتاج العلمي والتفكير التأملي والرضوخ للإكراهات المهنية. وهذا ما دفعه إلى الإقرار بأن الوضع الإعتباري لهذا الفكر " ما يزال غير واضح بشكل عميق. فهو في نفس الآن منظم لممارسات علمية أو فكرية أو مهنية ، وهو استجابة للطلبات الصادرة عن الدول و المنظمات الكبرى ومدرك للتغييرات الحاصلة داخل هذه المنظمات نفسها . وفي الأخير ، فإنه يوجد في أصل أو يصاحب التغييرات على مستوى الممارسات الثقافية أو صيغ نشر أو اكتساب المعارف".و يعزى هذا الوضع إلى أن البحث في مجال التواصل الإنساني و /أو مجالات الإعلام والاتصال قد واكبته هذه النزعة المهنية التي تتوخى التواصل و/ أو الاتصال "الفعال".من ثمة، ظل يتجاذبه طرفان: الأول هو التنظيمات المهنية الخصوصية أو العمومية، وكذا وسائط الاتصال الجماهيري، و الثاني هو مجال البحث العلمي الذي ينشد الاعتراف الأكاديمي والمشروعية داخل الحقل الجامعي.
 من ثمة يطرح مييج مفارقة الفكر الاتصالي:كيف يمكن لفكر غير متوافق البتة مع الصيغ و المسالك المعمول بها على صعيد الفكر العلمي الأكاديمي أن يشكل مصدرا لمقاربات جديدة تريد أن تلم بتغيرات المجتمعات المعاصرة ؟.لإضاءة هذه المفارقة ؛بسط الباحث المظاهر الثلاثة لهذا الفكر ( والتي دفعته في الأخير إلى البحث في تاريخه ) ، حيث يمكن إجمالها في :
1-صلته الوثيقة بالأعمال الاجتماعية في المجتمعات الصناعية ..و بالقضايا المنبثقة من الأوساط المتخصصة في الوساطة الثقافية ونقل المعارف؛
2-عرضانيته، أي نزوعه إلى إجراء تمفصلات بين حقول مفصولة..؛
3- قدرته على الإدماج و الوصل بين إشكاليات منبثقة من تيارات نظرية متباينة.
 و لعل المظهر الثالث والأخير هو الذي دفع مييج إلى تأليف هذا الكتاب و ذلك من خلال:
1- تحديد التيارات المؤسسة للفكر الاتصالي في الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات؛
2-تتبع توسيع الإشكاليات المطروحة في السبعينيات و الثمانينيات؛
3-استعراض التساؤلات المطروحة حاليا.
  و ينطلق مييج في كتابه من الإقرار بتعدد مكونات الفكر الاتصالي الذي يزاوج بين العلمي و الإيديولوجي و المهني-العملي. وهذا ما يعبر عنه صراحة في قوله: " هنا يتم اختيارا لتصور المدافع عنه طيلة هذا الكتاب، ومفاده أن نظريات الاتصال ، وبالتالي الفكر الاتصالي ذاته، تشكل في آن تشييدات فكرية و أساطير أو خطابات متعلقة بالايدولوجيا و إجابات على أسئلة" عملية " يطرحها الناس على أنفسهم في ظروف اجتماعية معينة. إن إعطاء الأولوية لإحدى هذه المكونات ( أو على الأقل القول إنها سابقة على المكونات الأخرى ) هو موقف من الصعوبة بمكان الدفاع عنه . وقد يفضي إلى الفصل بين تاريخ الأفكار و تاريخ الممارسات، في حين أنهما مرتبطان بشكل غير قابل للفصل".
  و الملاحظ أن موقف مييج من الاتصال قد عرف تحولا مهما بين طبعتي الكتاب الأولى و الثانية.ذلك أنه اعتبر مفهوم الحقل كما حدد معناه بيير بورديو هو ما يعرف الاتصال ويحدده نظرا لأنه " قادر على توضيح الطابع المزدوج ( بله المتناقض ) للفكر الاتصالي ذاته". لكن بعد عشر سنوات ،يضيف مييج إلى الفقرة السالفة ما يلي:" وعند التروي، يبدو لي أنه يجب رفض هذا الموقف بسبب العلاقات المتعددة التي يقيمها الاتصال مع ال" اجتماعي " و لطابعه العرضاني .و من جراء ذلك،فان الفكر الاتصالي يتملك/يعيد إنتاج سمات مميزة خاصة لا تنحصر في حقل معين ".غير أنه لم يفصل القول في هذا التحول، حيث عبر عنه بهذا الشكل السريع في نهاية خاتمة الكتاب.
  وإذا كانت فئة كبيرة من الباحثين الفرنسيين قد أعلنت استقلالية البحث في الإعلام والاتصال داخل إطار ما يسمى بعلوم الإعلام والاتصال ، فان مييج يبدي حذرا علميا- سوسيولوجيا من هذا الإعلان. ذلك أنه يذهب إلى أن الشروط التي يطلب فيها " من علوم الإعلام والاتصال أن تتأسس مجتمعة أو بشكل منفصل تبقى تابعة بشكل قوي للسياقات الوطنية حتى وان كانت الصراعات العلمية التي جرت في جميع الحالات؛ من أجل أن يفرض " حقل " جديد نفسه و أن يتم القبول بشرعيته،( كانت ) تعبيرا عن الصراعات من أجل السلطة داخل المؤسسات الجامعية " .كما يؤكد الباحث وجود تحول ملحوظ في " الشروط التي يطلب فيها من علوم الإعلام و الاتصال أن تحقق استقلالها الذاتي عن الدراسات الأدبية و العلوم الإنسانية و ( بشكل نادر ) عن العلم الفيزيائية " .و يعزو مييج ذلك إلى أن الرهانات النظرية والعلمية قد تغيرت مواقعها ، كما أن شرعيتا إن لم يتم اكتسابها بعد فهي في الطريق للحصول عليها. لكنه يحذر قائلا انه " بالقدر الذي ستتقدم فيه علوم الإعلام و الاتصال في تطبيق منهجيات علمية ( يكمن خلف ذلك تنوع الإشكاليات التي تؤسسها ) بقدر ما ستتم مساءلتها و مناقشتها بل و الاعتراض عليها". و هذا ما يدل في رأي الباحث على أنها وصلت لمستوى معين من النضج ، ويؤشر على أن موضوعات البحث التي نذرت نفسها لدراستها بدأ يتم أخذها بعين الاعتبار.
 تلكم باختصار أهم المميزات و المظاهر و المكونات الأساسية للفكر الاتصالي كما يتصورها مؤلف الكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي ، عسى أن يشكل إضافة متواضعة من شانها اغناء الاهتمام المغربي و العربي بمجال الإعلام و الاتصال و / أو التواصل الإنساني ، سواء على المستوى الإعلامي أو المهني أو داخل الحقل الجامعي. و لعل الرسالة الأساسية التي أردت أن أبعث بها هي ضرورة الانتباه إلى الأسس الفكرية التي تسند التواصل الإنساني أو مجالات  الإعلام و الاتصال، و بالتالي النظر إليهما من زاوية البحث العلمي و التأمل الفكري و ليس كموضة أو أرض مشاع بإمكان أي كان أن يدلي بدلوه فيها و كيفما اتفق. ترى هل ستصل الرسالة؟.



 
  أحمد القصوار (2012-04-23)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

نحو تاريخ للفكر الإتصالي-أحمد القصوار

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia